فصل: الفصل الرابع: في الترجيح بين المعاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.الفصل الرابع: في الترجيح بين المعاني:

وهذا الفصل هو ميزان الخواطر الذي يوزن به نقد درهمها ودينارها بل المحك الذي يعلم منه مقدار عيارها، ولا يزن به إلا ذو فكرة متقدة، ولمحة منتقدة، فليس كل من حمل ميزاناً سمي صرافاً، ولا كل من وزن به سمي عرافاً، والفرق بين هذا الترجيح الفقهي أن هناك يرجح بين دليلي الخصمين في حكم شرعي، وهاهنا يرجح بين جانبي فصاحة وبلاغة في ألفاظ ومعان خطابية، وبيان ذلك أن صاحب الترجيح الفقهي يرجع بين خبر التواتر مثلاً وبين خبر الآحاد، أو بين المسند والمرسل، أو ما جرى هذا المجرى، وهذا لا يعرض إليه صاحب علم البيان، لأنه ليس من شأنه، ولكن الذي هو من شأنه أن يرجح بين حقيقة ومجاز، أو بين حقيقتين، أو بين مجازين، ويكون ناظراً في ذلك كله إلى الصناعة الخطابية، ولربما اتفق هو وصاحب الترجيح الفقهي في بعض المواضع، كالترجيح بين عام وخاص، أو ما شابه ذلك.
وكنا قدمنا القول في الحكم على المعاني وانقسامها، ولنبين في هذا الفصل مواضع الترجيح بين وجوه تأويلاتها فنقول: أما القسم الأول من المعاني فلا تعلق للترجيح به، إذا ما دل عليه ظاهر لفظه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً فليس من هذا الباب في شيء، والترجيح إنما يقع بين معنيين يدل عليهما لفظ واحد.
ولا يخلو الترجيح بينهما من ثلاثة أقسام: إما أن يكون اللفظ حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، أو حقيقة فيهما جميعاً، أو مجازاً فيهما جميعاً، وليس لنا قسم رابع، والترجيح بين الحقيقتين، أو بين المجازين يحتاج إلى نظر، وأما الترجيح بين الحقيقة والمجاز، فإنه يعلم ببديهة النظر، لمكان الاختلاف بينهما، والشيئان المختلفان يظهر الفرق بينهما، بخلاف ما يظهر بين الشيئين المشتبهين.
فمثال الحقيقة والمجاز قوله تعالى: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون} فالجلود هاهنا تفسر حقيقة ومجازاً: أما الحقيقة فيراد بها الجلود مطلقاً، وأما المجاز فيراد بها الفروج خاصة، وهذا هو الجانب البلاغي، الذي يرجح جانب المجاز على الحقيقة، لما فيه من لطف الكناية عن المكنى عنه، وقد يسأل هاهنا في الترجيح بين الحقيقة والمجاز من غير الجانب البلاغي، ويقال: ما بيان هذا الترجيح؟ فيقال: طريقه لفظ الجلود عام فلا يخلو إما أن يراد به الجلود مطلقاً أو يراد به الجوارح التي هي أدوات الأعمال الخاصة، ولا يجوز أن يراد به الجلود على الإطلاق، لأن شهادة غير الجوارح التي هي الفاعلة شهادة باطلة، إذ هي شهادة غير شاهد، والشهادة غير شاهد، والشهادة هنا يراد بها الإقرار، فتقول اليد: أنا فعلت كذا وكذا، وتقول الرجل: أنا مشيت إلى كذا وكذا، وكذلك الجوارح الباقية تنطق مقرةً بأعمالها، فترجح بهذا أن يكون المراد به شهادة الجوارح، وإذا أريد به الجوارح فلا يخلو إما أن يراد به الكل أو البعض، فإن أريد به الكل دخل تحته السمع والبصر، ولم يكن لتخصيصهما بالذكر فائدة، وإن أريد به البعض فهو بالفرج أخص منه بغيره من الجوارح، لأمرين أحدهما: أن الجوارح كلها قد ذكرت في القرآن الكريم شاهدة على صاحبها بالمعصية ما عدا الفرج، فكان حمل الجلد عليه أولى، ليستكمل ذكر الجميع، الآخر: أنه ليس في الجوارح ما يكره التصريح بذكره إلا الفرج، فكني عنه بالجلد، لأنه موضع يكره التصريح فيه بالمسمى على حقيقته.
فإن قيل: إن تخصيص السمع والبصر بالذكر من باب التفصيل، كقوله تعالى: {فاكهةٌ ونخلٌ ورمانٌ} والنخل والرمان من الفاكهة.
قلت في الجواب هذا القول عليك لا لك، لأن النخل والرمان إنما ذكر التفضيل لهما في الشكل أو في الطعم، والفضيلة هاهنا في ذكر الشهادة إنما هي تعظيم لأمر المعصية، وغير السمع والبصر أعظم في المعصية، لأن معصية السمع إنما تكون في سماع غيبة، أو في سماع صوت مزمار أو وتر، أو ما جرى هذا المجرى، ومعصية البصر إنما تكون في النظر إلى محرم، وكلتا المعصيتين لا حد فيهما، وأما المعاصي التي توجد من غير السمع البصر فأعظم لأن معصية اليد توجب القطع، ومعصية الفرج توجب جلد مائة أو الرجم، وهذا أعظم، فكان ينبغي أن تخص بالذكر دون السمع والبصر، وإذا ثبت فساد ما ذهبت إليه فلم يكن المراد بالجلود إلا الفروج خاصة.
وأما مثال المعنيين إذا كانا حقيقيين فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» والخبايا جمع خبيئة، وهو كل ما يخبأ كائناً ما كان، وهذا يدل على معنيين حقيقيين: أحدهما الكنوز المخبوأة في بطون الأرض، والآخر: الحرث والغراس، وجانب الحرث والغراس أرجح، لأن مواضع الكنوز لا تعلم حتى تلتمس، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر بذلك، لأنه شيء مجهول غير معلوم، فبقي المراد بخبايا الأرض ما يحرث ويغرس.
وكذلك ورد قوله: «إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال» وهذا الحديث مرخص في ترك صلاة الجماعة بسبب المطر، وله تأويلان: أحدهما: أنه أراد نعال الأرض، وهو ما غلظ منها، والآخر: أنه أراد الأحذية، والوجه هو الثاني، لظهوره في الدلالة على المعنى، وأكثر العلماء عليه، ولو كان المراد به غلظ من الأرض لخرج عن هذا الحكم كل بلد تكون أرضه سهلة لا غلظ فيها.
وأما أمثال المعنيين المجازيين فقول أبي تمام:
قد بلونا أبا سعيدٍ حديثاً ** وبلونا أبا سعيدٍ قديما

ووردناه ساحلاً وقليباً ** ورعيناه بارضاً وجميما

فعلمنا أن ليس إلا بشق الن ** فس صار الكريم يدعى كريماً

فالساحل والقليب يستخرج منهما تأويلان مجازيان: أحدهما أنه أراد بهما الكثير والقليل بالنسبة إلى الساحل والقليب، والآخر أنه أراد بهما السبب وغير السبب، فإن الساحل لا يحتاج في ورده إلى سبب، والقليب يحتاج في ورده إلى سبب، وكلا هذين المعنيين مجاز، فإن حقيقة الساحل والقليب غيرهما، والوجه هو الثاني، لأنه أدل على بلاغة القائل ومدح المقول فيه، أما بلاغة القائل فالسلامة من هجنة التكرير بالمخالفة بين صدر البيت وعجزه، فإن عجزه يدل على القليل والكثير، لأن البارض هو أول النبت حين يبدو، فإذا كثر وتكاثف سمي جميما، فكأنه قال: أخذنا منه تبرعاً ومسألة، وقليلاً وكثيراً، وأما المدح المقول فيه فلتعداد حالاته الأربع في تبرعه وسؤاله وإكثاره وإقلاله، وما في معاناة هذه الأحوال من المشاق.
فهذا ما يتعلق بالترجيح البلاغي بين الحقيقة والحقيقة وبين المجاز والمجاز، وبين الحقيقة والمجاز.
وهاهنا ترجيح آخر لا يتعلق بما أشرنا إليه إذ هو خارج عما تقتضيه المعاني الخطابية من جهة الفصاحة أو البلاغة، وذلك أن يرجح بين معنيين: أحدهما تام، والآخر مقدر، أو يكون أحدهما: مناسباً لمعنى تقدمه أو تأخر عنه، والآخر غير مناسب، أو بأن ينظر في الترجيح بينهما إلى شيء خارج عن اللفظ، فمثال المعنيين المشار إليهما أن المعنى التام هو الذي يدل عليه لفظه ولا يتعداه، وأما المقدر فهو الذي لا يدل عليه لفظه بل يستدل عليه بقرينة أخرى، وتلك القرينة قد تكون من توابعه وقد لا تكون.
فمما جاء من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «في سائمة الغنم زكاة» فهذا اللفظ يستخرج منه معنيان: أحدهما: تام، والآخر: مقدر، فالتام دلالته على وجوب الزكاة في السائمة لا غير، والمقدر دلالته على سقوط الزكاة عن المعلوفة، إلا أنه ليس مفهوماً من نفس اللفظ، بل من قرينة أخرى هي كالتابعة له، وهي أنه لما خصت السائمة بالذكر دون المعلوفة علم من مفهوم ذلك أن المعلوفة لا زكاة فيها، وللفقهاء في ذلك مجاذبات جدلية يطول الكلام فيها، وليس هذا موضعها، والذي يترجح عندي هو القول بفحوى المعنى المقدر، وهو الذي يسميه الفقهاء مفهوم الخطاب.
وله في الشعر أشباه ونظائر: فمما ورد من ذلك شعراً قول جزء بن كليب الفقعسي من شعراء الحماسة، وقد خطب إليه ابن كوز ابنته فرده:
تبغي ابن كوزٍ والسفاهة كاسمها ** ليستاد منا أن سنونا لياليا

فلا تطلبنها يا ابن كوزٍ فإنه ** غذ الناس مذ قام النبي الجواريا

وهذا البيت الثاني يشتمل على المعنيين التام والمقدر، أما التام فإن ابن كوز سأل أبا هذه الجارية أن يزوجه إياها في سنة، والسنة: الجدب، فرده وقال: قد غذاْ الناس البنات مذ قام النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أيضاً أغذو هذه، ولولا ذلك لوأدتها كما كانت الجاهلية تفعل، وفيه وجه آخر، وهو أنهم كانوا يئدون البنات قبل الإسلام فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقوله غذاْ الناس مذ قام النبي الجواريا أي في النساء كثرة، فتزوج بعضهن وخل ابنتي، وهذان المعنيان هما اللذان دل عليهما ظاهر اللفظ، وأما المعنى المقدر الذي يعلم من مفهوم الكلام، فإنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإحياء البنات، ونهى عن الوأد، ولو أنكحتكها لكنت قد وأدتها، إذ لا فرق بين إنكاحك إياها وبين وأدها، وهذا ذم للمخاطب، وهو معنى دقيق، ومجيء المعاني المستخرجة من المفهومة قليل من الشعر.
وأما ما يستدل عليه بقرينة ليست من توابعه فإن ذلك أدق من الأول، وألطف مأخذاً.
فمما ورد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جُعِلَ قاضياً فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين وأما المقدر فإنه يدل على أنه من جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين» فهذا يستخرج منه المعنيان المشار إليهما، فالتام منهما يدل على أنه من جعل قاضياً فقد أمر بمفارقة هواه، وهذا لا يدل عليه اللفظ بنفسه، بل يستدل عليه بقرينة أخرى، ولكنها ليست من توابعه، ووجه ذلك أن لفظ الحديث عام يشمل القضاة على الإطلاق، ولا يخلو إما أن يراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا، ولا يجوز أن يكون المراد به عذاب الآخرة، لأنه ليس كل قاض معذباً في الآخرة بل المعذب منهم قضاة السوء فوضح بهذا أن المراد بالحديث عذاب الدنيا، وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون العذاب صورةً أو معنى، ولا يجوز أن يكون صورة، لأنا نرى الإنسان إذا جعل قاضياً لا يذبح ولا يناله شيءٌ من ذلك، فبقي أن يكون المراد به عذاباً معنوياً، وهو الذبح المجازي غير الحقيقي وفحوى ذلك أن نفس الإنسان مركبة على حب هواها فإذا جعل قاضياً فقد أمر بترك ما جبل على حبه: من الامتناع عن الرشوة، والحكم لصديقه على عدوه، ورفع الحجاب بينه وبين الناس، والجلوس للحكم في أوقات راحته، وغير ذلك من الأشياء المكروهة التي تشق على النفس وتجدد لها ألماً مبرحاً والذبح هو قطع الحلقوم، والألم الحاصل به، وهو كالذبح الحقيقي، بل أشد منه، لأن ألم الذبح الحقيقي يكون لحظة واحدة ثم ينقضي ويزول، وألم قطع النفس عن هواها يدوم ولا ينقضي، وهو أشد العذاب. قال الله تعالى في عذاب أهل النار: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} وقال في نعيم أهل الجنة: {وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين}.
وكثيرا ما رأينا وسمعنا من حمله حب الشيء على إتلاف نفسه في طلبه، وركوب الأهوال من أجله، فإذا امتنع عنه مع حبه إياه فقد ذبح نفسه: أي قطعها عنه كما يقطع الذابح حلق الذبيحة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انتقلنا عن الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فسمى جهاد الكفار الجهاد الأصغر وجهاد النفس الجهاد الأكبر، فكما أن مجاهدة النفس عن هواها قتال بغير سيف فكذلك قطعها عن هواها ذبح بغير سكين، وهذا موضع غامض، والترجيح فيه مختص بالوجه الآخر، لاشتماله على المعنى المقصود وهو المراد من القضاة على الإطلاق.
وأما مثال المعنيين إذا كان أحدهما مناسباً لمعنى تقدمه أو لمعنى تأخر عنه والآخر غير مناسب: فالأول هو ما كان مناسباً لمعنى تقدمه كقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} فالدعاء هاهنا يدل على معنيين: أحدهما: النهي أن يدعى الرسول باسمه، فيقال يا محمد، كما يدعو بعضهم بعضاً بأسمائهم، وإنما يقال له: يا رسول الله، أو يا نبي الله، الآخر: النهي أن يجعلوا حضورهم عنده إذا دعاهم لأمر من الأمور كحضور بعضهم عند بعض، بل يتأدبون معه، بأن لا يفارقوا مجلسه إلا بإذنه، وهذا الوجه هو المراد، لمناسبة معنى الآية التي قبله، وهو قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه} أما الثاني: وهو ما كان مناسباً لمعنى تأخر عنه فكقوله تعالى: {والتين والزيتون وطور سينين} فالتين والزيتون هما هذا الشجر المعروف، وهما اسما جبلين أيضاً، وتأويلهما بالجبلين أولى، للمناسبة بينهما وبين ما أتى بعدهما من ذكر الجبل الذي هو الطور.
وعلى هذا ورد قول الشاعر في أبيات الحماسة:
ولو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ** علي لإنسانٍ من الناس درهما

ولكنني مولى قضاعة كلها ** فلست أبالي أن أدين وتغرما

فإذا نظرنا إلى البيت الأول وجدناه يحتمل مدحاً وذماً، أي أنهم كانوا يغنونه بعطائهم أن يدين، أو أنه كان يخاف الدين حذر أن لا يقوموا عنه بوفائه، لكن البيت الثاني حقق أن الأول ذم وليس بمدح، فهذا المعنى لا يتحقق فهمه إلا بآخره.
وأما الذي يكون الترجيح فيه بسبب شيء خارج عن مفهوم اللفظ فقوله تعالى: {وهو الله في السموات والأرض يعلم سركم وجهركم} فهذا مستنبط منه معنيان: أحدهما أن الله يعلم السر والجهر في السموات والأرض، وفي ذلك تقديم وتأخير: أي يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، والآخر أنه في السموات، وأنه يعلم السر والجهر في الأرض من بني آدم، لأن الوقف يكون على السموات ثم يستأنف الكلام فيقول: يعلم سركم وجهركم في الأرض، إلا أن هذا يمنع اعتقاد التجسيم، وذلك شيء خارج عن مفهوم اللفظ.

.الفصل الخامس: في جوامع الكلم:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم» فالكلم: جمع كلمة، والجوامع: جمع جامعة، والجامعة: اسم فاعلة من جمعت فهي جامعة، كما يقال في المذكر: جمع فهو جامع، والمراد بذلك أنه أوتي الكلم الجوامع للمعاني، وهو عندي ينقسم قسمين: القسم الأول منهما هو ما استخرجته ونبهت عليه، ولم يكن لأحد فيه قول سابق، وهو أن لنا ألفاظاً تتضمن من المعنى ما لا تتضمنه أخواتها مما يجوز أن يستعمل مكانها فمن ذلك ما يأتي على حكم المجاز، ومنه ما يأتي على حكم الحقيقة.
أما ما يأتي على حكم المجاز فقوله يوم حنين: «الآن حمي الوطيس» وهذا لم يسمع من أحد قبل رسول الله ولو أتينا بمجاز غير ذلك في معناه فقلنا استعرت الحرب لما كان مؤدياً من المعنى ما يؤديه حمي الوطيس والفرق بينهما أن الوطيس هو التنور، وهو موطن الوقود ومجتمع النار، وذلك يخيل إلى السامع أن هناك صورة شبيهة بصورته في حميها وتوقدها، وهذا لا يوجد في قولنا استعرت الحرب أو ما جرى مجراه.
وكذلك قال بعثت في نفس الساعة فقوله نفس الساعة من العبارة العجيبة التي لا يقوم غيرها مقامها، لأن المراد بذلك أنه بعث والساعة قريبة منه، لكن قربها منه لا يدل على ما دل عليه النفس، وذاك أن النفس يدل على أن الساعة منه بحيث يحس بها كما يحس الإنسان بنفس من هو إلى جانبه، وقد قال في موضع آخر: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وجمع بين إصبعيه السبابة والوسطى، ولو قال بعثت على قرب من الساعة أو والساعة قريبة مني لما دل ذلك على ما دل عليه نفس الساعة، وهذا لا يحتاج إلى الإطالة في بيانه، لأنه بين واضح.
وقد ورد شيء من ذلك في أقوال الشعراء المفلقين، ولقد تصفحت الأشعار قديمها وحديثها وحفظت ما حفظت منها، وكنت إذا مررت بنظري في ديوان من الدواوين ويلوح لي فيه مثل هذه الألفاظ أجد لها نشوةً كنشوة الخمر، وطرباً كطرب الألحان، وكثير من الناظمين والناثرين يمر على ذلك ولا يتفطن له، سوى أنه يستحسنه من غير نظر فيما نظرت أنا فيه، ويظنه كغيره من الألفاظ المستحسنة.
فمما جاء من ذلك قول أبي تمام:
كم صارمٍ عضبٍ أناف على فتى ** منهم لأعباء الوغى حمال

سبق المشيب إليه حتى ابتزه ** وطن النهى من مفرقٍ وقذال

فقوله وطن النهى من الكلمات الجامعة، وهي عبارة عن الرأس، ولا يجاء بمثلها في معناها مما يسد مسدها.
وكذلك ورد قول البحتري:
قلبٌ يطل على أفكاره ويدٌ ** تمضي الأمور ونفسٌ لهوها التعب

فقوله قلبٌ يطل على أفكاره من الكلمات الجوامع، ومراده بذلك أن قلبه لا تملوه الأفكار، ولا تحيط به، وإنما هو عالٍ عليها، يصف بذلك عدم احتفاله بالقوادح، وقلة مبالاته بالخطوب التي تحدث أفكاراً تستغرق القلوب، وهذه عبارة عجيبة لا يؤمن بمثلها مما يسد مسدها.
وأما ما يأتي على حكم الحقيقة فكقول ابن الرومي:
سقى الله أوطاراً لنا ومآرباً ** تقطع من أقرانها ما تقطعا

ليالٍ تنسيني الليالي حسابها ** بلهنية أقضي بها الحول أجمعا

سوى غرة لا أعرف اليوم باسمه ** واعمل فيه اللهو مرأى ومسمعا

فقوله لا أعرف اليوم باسمه من الكلمات الجامعة: أي أني قد شغلت باللذات عن معرفة الليالي والأيام، ولو وصف اشتغاله باللذات مهما وصف لم يأت بمثل قوله لا أعرف اليوم باسمه.
وأما القسم الثاني من جوامع الكلم، فالمراد به الإيجاز الذي يدل به بالألفاظ القليلة على المعاني الكثيرة: أي أن ألفاظه صلوات الله عليه جامعة للمعاني المقصودة على إيجازها واختصارها، وجل كلامه جارٍ هذا المجرى، فلا يحتاج إلى ضرب الأمثلة به، وسيأتي في باب الإيجاز منه ما فيه كفاية ومقنع.
فإن قيل: فما الفرق بين هذين القسمين اللذين ذكرتهما، فإنهما في النظر سواء؟ قلت في الجواب إن الإيجاز هو أن يؤتى بألفاظ دالة على معنى من غير أن تزيد على ذلك المعنى، ولا يشترط في تلك الألفاظ أنها لا نظير لها، فإنها تكون قد اتصفت بوصف آخر خارج عن وصف الإيجاز، وحينئذ يكون إيجازاً وزيادة. وأما هذا القسم الآخر فإنه ألفاظ أفراد في حسنها لا نظير لها، فتارة تكون موجزة، وتارة لا تكون موجزة، وليس الغرض منها الإيجاز، وإنما الغرض مكانها من الحسن الذي لا نظير لها فيه، ألا ترى إلى قول أبي تمام وطن النهي فإن ذلك عبارة عن الرأس، ولا شك أن الرأس أوجز، لأن الرأس لفظة واحدة، ووطن النهي لفظتان، إلا أن وطن النهي أحسن في التعبير عن الرأس من الرأس فبان بهذا أن أحد هذين القسمين غير الآخر.

.الفصل السادس: في الحكمة التي هي ضالة المؤمن:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها إذا وجدها» والمراد بذلك أن الحكمة قد يستفيدها أهلها من غير أهلها، كما يقال: رب رمية من غير رام، وهذا لا يخص علماً واحداً من العلوم، بل يقع في كل علم، والمطلوب منه هاهنا هو ما يخص علم البيان من الفصاحة والبلاغة، دون غيره، ومذ سمعت هذا الخبر النبوي جعلت كدي في تتبع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم، فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم ما يقوله، فاستفدت بذلك فوائد كثيرة لا أحصرها عدداً، وأنا أذكر منها طرفاً يستدل به على أشباهه ونظائره.
فمن ذلك أني سرت في بعض الطرق وفي صحبتي رجل بدوي من الأنباط لا يعتد بقوله، فكان يقول: غداً ندخل البلد وتشتغل عني، وكان الأمر كما قال، فدخلت مدينة حلب وشغلت عنه أياماً، ثم لقيني فقال لي: من تروى فترت عظامه، وهذا القول من الأقوال البليغة وهي من الحكمة التي هي الضالة المطلوبة عند مؤمني الفصاحة والبلاغة.
ثم إني سمعت منه بعد ذلك شيئاً يناسب قوله الأول، فإني سفرت له إلى صاحب في حلب في شيء أخذته منه، فاستقله، وقال: الماء أروى لشدوق النيب وهذا أيضاً من الحكمة في بابها.
وسافرت مرة أخرى على طريق المناظرة، وكان في صحبتي رجل بدوي، فسألته عن مسافة ما بين تدمر وأراك، فقال: إذا خرج سرحاهما تلاقيا، فعبر عن قرب المسافة بينهما بأوجز عبارة وأبلغها.
ثم سألته ليلة من الليالي عن الصبح لنرتحل من موضعنا، فقال: قد ظهر الصبح إلا أنه لم يملك الإنسان بصره، وهذا القول من الحكمة أيضاً.
وكان تزوج غلام من غلماني دمشق، فوقعت المرأة منه بموقع، وشغف بها ثم إني سافرت عن دمشق لمهم عرض لي، وسافر ذلك الغلام في صحبتي، فلما عدنا من السفر شغل بامرأته والمقام عندها، فسألته عن حاله فقال: إنها قد طالت وحسنت، وهي كذا وكذا، وأخذ يصفها، فقال أخ له كان حاضراً: يا مولاي، هي تلك لم تزد شيئاً، وإنما هي في عينه جبار من الجبابرة، وهذا القول قد ورد في بعض أبيات الحماسة وهي معدود من أبيات المعاني:
أهابك إجلالاً وما بك قدرةٌ ** علي ولكن ملء عينٍ حبيبها

فكثيراً ما يصدر مثل هذه الأقوال عن ألسنة الجهال.
وسمعت ما يجري هذا المجرى من بعض العبيد الأحابش الذين لا يستطيعون تقويم صيغ الألفاظ، فضلاً عما وراء ذلك، وذاك أنه رأى صبياً في يده طاقة ريحان، فقال: هذه طاقة آسٍ تحمل طاقة ريحان فلما سمعت ذلك منه أخذتني هزة التعجب، وذكرت شعر أبي نواس الذي تواصفه الناس في هذا المعنى، وهو قوله:
ووردةٍ بها شادنٌ ** في كفه اليمنى فحيانا

سبحت ربي حين أبصرتها ** ريحانة تحمل ريحانا

وحضر عندي في بعض الأيام رجل نصراني موسوم بالطب، وكان لا يحسن أن يقول كلمة واحدة، وهو أقلف اللسان، يسيء العبارة فسألته عن زيارة شخص وهل يتردد إليه أم لا، فقال: ظلام الليل يهديني إلى باب من أوده، وضوء النهار يضل به عن باب من لا أوده، وهذا من ألطف المعاني وأحسنها وهو من الحكمة المطلوبة.
وكنت قصدت زيارة بعض الإخوان من الأجناد وهو من الأغتام الأعجام، فسألته عن حاله، وكان توالت عليه نكبات طالت أيامها، وعظمت آلامها، فقال لي في الجواب ما معناه: إنه لم يبق عندي ارتياع لوقوع نائبة من النوائب وهذا معنى لو أتى به شاعر مفلق، أو كاتب بليغ لاستحسن منه غاية الاستحسان.
وكنت في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة بأرض فلسطين في الجيش الذي كان قبالة العدو الكافر من الفرنج لعنهم الله، وتقابل الفريقان على مدينة يافا، وكان إلى جانبي ثلاثة فرسان من المسلمين، فتعاقدوا على الحملة إلى نحو العدو، فلما حملوا صدق منهم اثنان وتلكأ واحد، فقيل له في ذلك، فقال: الموت طعام لا تجشه المعدة فلما سمعت هذه الكلمة استحسنتها، وإذا هي صادرة عن رجل من أهل بصرى فدم من الأفدام.
ولو أخذت في ذكر ما سمعته من هذا لأطلت، وإنما دللت بيسير ما ذكرته على المراد، وهو أنه يجب على المتصدي للشعر والخطابة أن يتتبع أقوال الناس في محاوراتهم فإنه لا يعدم مما يسمعه منهم حكماً كثيرة، ولو أراد استخراج ذلك بفكره لأعجزه.
ويحكى عن أبي تمام أنه لما نظم قصيدته البائية التي أولها:
على مثلها من أربعٍ وملاعب

انتهى منها إلى قوله:
يرى أقبح الأشياء أوبة آملٍ ** كسته يد المأمول حلة خائب

ثم قال:
وأحسن من نورٍ يفتحه الصبا

ووقف عند صدر هذا البيت يردده، وإذا سائل يسأل على الباب، وهو يقول من بياض عطاياكم في سواد مطالبنا فقال أبو تمام:
بياض العطايا في سواد المطالب

فأتم صدر البيت الذي كان يردده من كلام السائل.
وسمعت امرأة قد توفي لها ولد، وهو بكرها الذي هو أول أولادها فقالت: كيف لا أحزن لذهابه وهو أول درهمٍ وقع في الكيس، فأخذت أنا هذا المعنى وأودعته كتاباً من كتبي في التعازي، وهو كتاب كتبته إلى بعض الإخوان وقد توفي بكره من الأولاد فقلت: وهو أول درهمٍ ادخرته في كيس الادخار، وأعددته لحوادث الليل والنهار.
وبلغني عن الشيخ أبي محمد بن أحمد المعروف بابن الخشاب البغدادي، وكان إماماً في علم العربية وغيره، فقيل: إنه كان كثيراً ما يقف على حلق القصاص والمشعبذين، فإذا أتاه طلبة العلم لا يجدونه في أكثر أوقاته إلا هناك، فليم على ذلك، وقيل له: أنت إمام الناس في العلم، وما الذي يبعثك على الوقوف بهذه المواقف الرذيلة، فقال: لو علمتم ما أعلم لما لمتم، ولطالما استفدت من هؤلاء الجهال فوائد كثيرة فإنه يجري في ضمن هذيانهم معانٍ غريبة لطيفة، ولو أردت أنا وغيري أن نأتي بمثلها لما استطعنا ذلك ولا شك أن هذا الرجل رأى ما رأيته ونظر إلى ما نظرت إليه.